كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



قال تعالى: {وَما أَفاءَ اللَّهُ عَلى رَسُولِهِ مِنْهُمْ} يكون خاصة لحضرة الرّسول يضعه حيث شاء، لأن الذي يقسم على الجيش هو الذي يحصل بالمقاتلة أو المشقة، وهذا ليس كذلك، لأن قريتهم على ميلين من المدينة، وقد جاءوا مشيا على الأقدام ولم يتجشموا من جرائهم تعبا ولا نصبا.
قال تعالى مبينا ما هو المراد من صدر الآية وموضحا كيفية تقسيم الغنائم واختصاصها بقوله جل قوله: {فَما أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ} الوجيف سرعة السّير أي فما أجريتم على اغتنامه {مِنْ خَيْلٍ وَلا رِكابٍ} حتى تستحقوا منه شيئا، وذلك أن بني النّضير لما أجلوا وتركوا رباعهم وضياعهم وخيلهم، طلب بعض المسلمين الّذين كانوا مع حضرة الرّسول قسمتها بينهم كما فعل بغنائم خيبر، فأنزل اللّه هذه الآية يعلمهم فيها أن ليس لهم بشيء منها من حق لأنهم لم يتجشموا من أجلها متاعب ولم يقطعوا فيها مشقة، ولذلك خصصها لحضرة رسوله، أما الذي يكون بشيء من ذلك فحكم تقسيمه ما أوضحناه في الآية 10 من سورة الأنفال، وهكذا كلّ مدينة يسلم أهلها بلا قتال على شيء أو بدون شيء، والتي تدخل صلحا في حوزة المسلمين فإن ما يحصل منها في الفيء يكون للإمام يضعه في بيت مال المسلمين وينفقه بعد في حوائجهم ومصالحهم وعلى الطّرق والثغور وفي السّلاح وغيره مما يراه نافعا وعلى المذكورين في الآية الآتية {وَلكِنَّ اللَّهَ يُسَلِّطُ رُسُلَهُ عَلى مَنْ يَشاءُ} فيأخذهم بالرعب دون قتال وسوق جيش يناله مشقة بالوصول إليهم كهؤلاء {وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} (6) يأخذ أناسا بقتال وأناسا بغيره، ومع هذا فإن حضرة الرّسول صلى الله عليه وسلم قسمه بين المهاجرين والأنصار كما رواه البخاري عن مالك بن أوس الفهري، وقد أشار اللّه إلى هذا بقوله: {ما أَفاءَ اللَّهُ عَلى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ} لأن مجيئها بلا أداة العطف دليل على أنها بيان للآية قبلها وهي إيضاح من اللّه للرسول فيما يضع بما أفاء اللّه عليه خاصة، وأمره له بان بضعه حيث يضع الخمس من الغنائم، وقد بينا الفرق بين الفيء والغنيمة هناك فراجعه، وقد أمر اللّه تعالى رسوله بذلك {كَيْ لا يَكُونَ} الفيء الذي حقه أن يعطى للفقراء بلغة يعيشون بها {دُولَةً} بضم الدّال وهي يتداوله ويتداوره النّاس بينهم في الملك بالكسر وبفتح الدّال ما يتدابره النّاس في الملك بضم الميم في النّصرة والجاه، وقيل قسمته تقسيم وتداول {بَيْنَ الْأَغْنِياءِ مِنْكُمْ} فيكاثر به بعضهم بعضا ويغمطون حق الفقراء، وهكذا، فلا يجوز للسلاطين والملوك والأمراء أن يختصوا بمثل ذلك لأنفسهم بل ينبغي أن يتركوه لمنافع المسلمين كالسلاح وعمارة الجسور ومحافظة الثغور وإصلاح الطّرق وآلات الحرب ولوازم المجاهدين والإنفاق على المرضى والعجزة والأرامل والأيتام وتعليم الفقراء والمساكين وما شابه ذلك.
مطلب أمر الرّسول أمر اللّه وبيان قسمة الفيء والغنيمة وذم البخل والشّح وعمل أبي طلحة رضي اللّه عنه وحب الأصحاب حب الرّسول:
قال تعالى: {وَما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ} أيها المؤمنون سواء كان من الفيء أو الغنيمة، ولا تطلبوا زيادة منه، ولا تسألوه لم أعطى ولم منع {وَما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} من الغلول وغيره، وامتثلوا أمره.
وهذه الآية عامة في كلّ ما يأمر به حضرة الرّسول وينهى عنه، لأنه لا يقول إلّا حقا ولا ينطق إلّا صدقا ولا يتكلم عن هوى {وَاتَّقُوا اللَّهَ} من أن تتهاونوا بأمره ونهيه كله لأنكم مأمورون بطاعته، قال تعالى: {أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ} الآية 58 من سورة النّساء المارة فطاعة اللّه طاعة رسوله وبالعكس {إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ (7)} على من يخالف أمر رسوله في قول أو فعل أو عمل، ولذلك ختم اللّه هذه الآية في هذه الجملة المهددة للمخالف الموعدة له بسوء العاقبة.
روى البخاري ومسلم عن عبد اللّه بن مسعود أنه قال: «لعن اللّه الواشمات والمستوشمات» (أي الطّالبات الوشم) وهو غرز الإبرة بجسم الإنسان وحشوه بالكحل أو شيء من الصّبغ فيصير أسود أو أزرق «والمتنمّصات» (اللائي ينتفن الشّعر من الوجه وغيره) «والمتفلجات (اللائي يتكلفن تفريج ما بين ثناياهن بضاعة) للحسن المغيرات لخلق اللّه»، فبلغ ذلك امرأة من بني أسد يقال لها أم يعقوب، وكانت تقرأ القرآن، فأتته فقالت ما حديث بلغني عنك أنك قلت كذا وكذا وذكرته؟ فقال عبد اللّه وما لي لا ألعن من لعن رسول اللّه وهو في كتاب اللّه، فقالت المرأة لقد قرأت الوحي (المصحف) فما وجدته، فقال إن كنت قرأته لقد وجدته، فإن اللّه عز وجل قال: {وَما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} يعلمها في هذه الآية أن ما يقوله حضرة الرسول واجب اتباعه مثل الذي يقوله اللّه في كتابه.
وما رويا عن عائشة قالت قال صلى الله عليه وسلم: «من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد».
وفي رواية: «من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد».
وما رواه أبو داود والترمذي عن أبي رافع أن رسول اللّه صلى الله عليه وسلم قال: «لا ألفين أحدكم منكبا على أريكته يأتيه أمر ما أمرت به أو نهيت عنه فيقول لا أدري، ما وجدناه في كتاب اللّه اتبعناه» يؤيد هذا ويؤكده.
إذا فلا محل للقول فيما قاله حضرة الرّسول بأنه ليس في كتاب اللّه، ولذلك لا نتقيد به بل هو من كتاب اللّه، لأن كلّ ما أخبر به رسول اللّه هو من اللّه، وفي كتاب اللّه، وبأمر اللّه، وعليه فإن من يتعدى لمثل هذا القول هو معاند زنديق لا يؤمن بكتاب اللّه ولا يصدق رسوله، لأنه لو آمن لما تجرأ على مثل هذا، ثم ذكر اللّه تعالى أصحاب الحقوق في الفيء بقوله: {للفقراء الْمُهاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأَمْوالِهِمْ} قسرا من قبل كفار قريش لأنهم {يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوانًا وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} لإعلاء كلمته ويجاهدون بأموالهم وأنفسهم لمرضاة اللّه لا لأمر آخر {أُولئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ} (8) في هجرتهم المخلصون بإيمانهم المستحقون للفيء أكثر من غيرهم.
روى مسلم عن عبد اللّه بن عمرو بن العاص قال سمعت رسول اللّه صلى الله عليه وسلم يقول إن فقراء المهاجرين يسبقون الأغنياء يوم القيامة إلى الجنّة بأربعين خريفا {وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ} اتخذوا المدينة مسكنا لهم ومأوى للمهاجرين من أهل مكة قبل قدوم النّبي صلى الله عليه وسلم: {وَالْإِيمانَ} لزموه وأخلصوا للّه به على حد قوله:
علفتها تبنا وماء باردا

وذلك لأنهم آثروه على الكفر {مِنْ قَبْلِهِمْ} وقيل المهاجرين وهم الأنصار الّذين آمنوا بمحمد قبل هجرته إليهم، وهم الّذين {يُحِبُّونَ مَنْ هاجَرَ إِلَيْهِمْ} من إخوانهم المسلمين المهاجرين حيث شاطروهم بأموالهم ومنازلهم وتخلوا لهم عن بعض نسائهم زواجا لهم، وذلك أن منهم من كان عنده نساء متعددات ولم يكن عندهم بنات فصار يطلق من قضى نهمته منها ثم يزوجها أخاه المهاجر، وهذا مما لا بأس به شرعا {وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حاجَةً} أي حزازة أو غيظا أو حسدا {مِمَّا أُوتُوا} من الفيء دونهم لأن رسول اللّه صلى الله عليه وسلم لما أعطى المهاجرين أموال بني النّضير ولم يعط منها إلّا ثلاثة من الأنصار، هم أبو حارثة سماك بن خراشة وسهيل بن حيف والحارث بن الصّمة، لم يغتاظوا وبقيت نفوسهم طيبة بذلك ولم يقولوا لم يعطنا مثل المهاجرين وكنا معه سواء {وَيُؤْثِرُونَ} أولئك الممدوحون أي يفضلون المهاجرين {عَلى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كانَ بِهِمْ خَصاصَةٌ} أي حاجة وفقر، قال ابن عباس قال صلى الله عليه وسلم يوم النّضير للأنصار «إن شئتم قسمتم المهاجرين من أموالكم ودياركم وتشاركونهم في هذه الغنيمة، وإن شئتم كانت لكم أموالكم ودياركم ولم نقسم لكم شيئا من الغنيمة» فقالوا بل نقسم لهم من أموالنا وديارنا ونؤثرهم بالغنيمة ولا نشاركهم فيها، فأنزل اللّه هذه الآية.
ومما جاء في الأخوة الصّادقة المخلصة ما رواه البخاري ومسلم عن أبي هريرة قال: «قالت الأنصار للنبي صلى الله عليه وسلم اقسم بيننا وبين إخواننا المهاجرين النّخيل، قال لا، فقالوا تكفونا المئونة ونشرككم في التمر، قالوا سمعنا وأطعنا».
وما روى البخاري عن أنس ابن مالك قال: «دعا رسول اللّه الأنصار إلى أن يقطع لهم البحرين، فقالوا لا إلا أن تقطع لإخواننا من المهاجرين مثلها، فقال أما لا فاجروا حتى تلقوني على الحوض فإنه سيصيبكم أثرة بعدي» (الأثرة بفتح الهمزة والثاء) أي يستأثر عليكم في أمور الدنيا ويفضل غيركم عليكم بسبب فساد الزمان، إذ يوسد الأمر إلى غير أهله، ويسود القوم أرذلهم.
وقيل نزلت هذه الآية في أبي طلحة لما رواه البخاري ومسلم عن أبي هريرة، قال: «جاء رجل إلى النّبي صلى الله عليه وسلم فقال إني مجهود (أي شديد الجوع) فأرسل إلى بعض نسائه فقالت والذي بعثك بالحق ما عندي إلّا الماء، ثم أقبل على الأخرى فقالت مثل ذلك، وقلن كلهن مثل ذلك، فقال صلى الله عليه وسلم من يضيفه يرحمه اللّه؟ فقام رجل من الأنصار يقال له أبو طلحة فقال أنا يا رسول اللّه، فانطلق به إلى رحله فقال لامرأته هل عندك شيء؟ قالت لا إلّا قوت صبياني، قال فعلليهم بشيء ونوميهم، فإذا دخل ضيفنا فأريه أنا نأكل فإذا أهوى بيده فقومي إلى السراج فاطفئيه ففعلت فقعدوا وأكل الضّيف وباتا طاويين، فلما أصبح غدا إلى رسول اللّه صلى الله عليه وسلم فقال عليه الصّلاة والسلام لقد عجب اللّه أو ضحك من فلان وفلانة» وفي رواية: «وأنزل اللّه هذه الآية».
وقدمنا ما يتعلق بالأخوة الصّادقة وفوائدها في الآية 67 من سورة الزخرف ج 2 فراجعها.
قال تعالى: {وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ} ويخالف هواها ويميل إلى كرم النّفس يفوز بخيري الدّنيا والآخرة، ولذلك قال تعالى: {فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} (9) والشّح اللّؤم وهو أن تكون النفس كزة حريصة على المنع، وقيل في ذلك:
يمارس نفسا بين جنبيه كزة ** إذا همّ بالمعروف قالت له مهلا

والكزّة القبيحة، والكزازة اليبس والانقباض، ويقال للبخيل كزّ اليدين.
والبخل شدة الحرص لخوف الفقر وعدم اليقين بخلف اللّه عليه لتغلب تسويلات الشّيطان عليه.
قال تعالى: {الشَّيْطانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشاءِ وَاللَّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلًا} الآية 269 من البقرة المارة.
ولا يزال البخيل يبخل حتى يحمله بخله على الحرص، حتى أنه ليبخل على نفسه بما في أيدي الغير، لأن من معاني البخل مطلق المنع.
روى مسلم عن جابر أن رسول اللّه صلى الله عليه وسلم قال: «اتقوا الظّلم فإن الظّلم ظلمات يوم القيامة، واتقوا الشّح فإن الشّح أهلك من كان قبلكم وحملهم على أن يسفكوا دماءهم ويستحلوا محارمهم»، وأخرج أبو داود عن أبي هريرة أنه صلى الله عليه وسلم قال: «شرّ ما في الرّجل شح هالع (الهلع شدة الجزع على ما يفوت) وجبن خالع (يخلع الفؤاد لشدة الفزع)».
وأخرج النّسائي عنه قال قال صلى الله عليه وسلم: «لا يجتمع غبار في سبيل اللّه ودخان جهنم في جوف عبد أبدا، ولا يجتمع الشّح والإيمان في قلب عبد أبدا».
وأشرنا إلى ما يتعلق لهذا آخر سورة محمد عليه السلام فراجعه، قال تعالى: {وَالَّذِينَ جاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ} أن الفيء المار ذكره يكون أولا للمهاجرين، ثم للأنصار، ثم للّذين يأتون من بعدهم وهم التابعون إلى يوم القيامة، لأن هذا الفيء يكون بيد من يتولى أمر المسلمين فينفقه عليهم، وهؤلاء المستحقون ذلك هم الّذين {يَقولونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنا وَلِإِخْوانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونا بِالْإِيمانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} (10) فعلينا معاشر المؤمنين أن ندعو لمن قبلنا ومن بعدنا أسوة بهؤلاء الصالحين الّذين وصفهم اللّه بالآية السّابقة، فالّذين لا يتصفون بتلك الصّفات لا يستحقون شيئا من الفيء والغنيمة، وليس لهم حق أي نصيب وحظ في فيء المسلمين، لأن المسلم يجب أن يكون مؤمنا وأن يدعو للمؤمنين ممن سبق زمنه بالمغفرة، وأن لا يكون في قلبه غيظ على أحد منهم، يدل على هذا ما رواه البخاري ومسلم عن أبي سعيد الخدري قال قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم: «لا تسبوا أصحابي فلو أن أحدكم أنفق مثل جبل أحد ذهبا ما بلغ مدّ أحدهم ولا نصيفه».